لا والذي أسدى لك الألقا.. يا خير بيت سرى إيماضه ورقى حاروا فظنوك ساءلت المطاف متى يَؤوبُ حشد القلوب الناضحات تقى أحاديث الحجر والحظر إنْ أغلقوا كلَّ بابٍ، وأوصدوه عليكْ وصرتَ لا شيء إلّا اللاشيء بين يديكْ فربّما، كلُّ هذا لكي تعودَ إليكْ.. بالحكمة والفلسفة، يحاول الشاعر السوري عبد القادر الحصني الدعوة للبحث عن الذات في هذه العزلة الإجبارية؛ فالتأمل والتدبر مرتبطان بالانقطاع والعزلة، ويبرر أبو الطيب مولود السريري السوسي ذلك في أحد كتابه بقوله: "ابتعاد المرء عما يشغله ويلهيه من أمور عن التركيز الفكري أمر مُفض إلى صفاء النظر، ونقاء مرآة الفكر على صورة قد يمكن بها أو معها رؤية الأشياء بجلاء، وبهذا تحصل الحركة الفكرية"، وكثيرًا ما اختار مفكرون وعلماء الانقطاع عن الناس واعتزالهم لفترات. لكن الحجر والعزلة، وإن كان تدبيرًا طبيًا قصد به الحد من انتشار الفيروس، فإنه غدا ملمحًا مجتمعيا وتحولا ثقافيا كبيرًا خاصة في المدن المعروفة بالحياة والعواصم التي لا تنام، وفي ذلك كتب المصري علاء جانب: "سكوتٌ.. سوى حَكْي المصابيح سُهدَها.. شوارعنا الثكلى بـ"حظر التجوّلِ" مدائن أشباح.. ترى الصمت سائدا عليها وأنفاس المخافات تصطلي وإن اختلفت زوايا نظر الشعراء للقضايا، فإنهم جميعًا يبحثون عن شيء من العزلة لكتابة نصوص جيدة، وقديمًا كتب ابن قتيبة في الشعر والشعراء: "وللشعر أوقات يُسرع فيها أتِيُّه، ويُسْمِح فيها أبِيُّه.. ومنها الخلوة في الحبس والمسير".
ومَنْ رزقه الله تعالَى الحُلُول بتلك الأرجاء والمُثُول بذلك الفِنَاء، فقدْ أنعَمَ الله عليه النِّعمة الكبرى، وخوَّله خير الدَّارَيْن: الدُّنيا والأخرى، فَحَقَّ عليه أن يُكْثِر الشُّكر على ما خَوَّله، ويُديم الحم على ما أولاه». عَرَفْنا الرِّحلة إلى الحجّ نثرًا، لكنَّ التَّاريخ ينبئنا عنْ رحلات نظمها أصحابها شِعْرًا، وبينما حَجَّ أناسٌ واستقبلوا البَنِيَّة المشرَّفة، فلمَّا عادوا إلى أوطانهم وضعوا الكُتُب يصفون فيها المَشاهد والبقاع = إذا بآخرين لمْ يكتب الله – تبارك وتعالى – لهم أن يحجُّوا ويزوروا تلك الأمكنة الشَّريفة، لكنَّهم أرسلوا كلماتهم، فنابتْ عنهم، وكنتُ أظنُّ أنَّ الشَّاعر محمَّد إقبال كان فريدًا حين أنشأ قصيدة طويلة حَجَّتْ فيها كلماتها، لَمَّا لمْ يُتَحْ له المثول في تلك الأمكنة المنيفة = فإذا بي أقرأ، بعد حين، أنَّ نفرًا مِنَ العلماء والشُّعراء والأدباء أنابوا كلماتهم ودفعوا بها إلى أقدس مطاف، فمِنْهم مَنْ أنشأ القصيدة، ومِنْهم مَنْ عقد فصلًا مِنَ النَّثر، أودعوا فيهما مِنَ الأشواق أحرَّها، ومِنَ الحُبّ أصفاه، وكان لنا مِنْ ذلك ضرْب مِنَ الأدب تَخَيَّلَ فيه أصحابه الحجّ، بلْ إنَّنا لنظهر على طَرَفٍ مِنَ الرَّسائل أنشأها أصحابها، فلمَّا أتمُّوها بعثوها مع قافلة الحجيج إلى القبر الشَّريف في المدينة المنوَّرة، وعُرِفَ الأندلسيُّون والمغاربة، دون غيرهم مِنَ المسلمين، بهذا اللَّون الطَّريف مِنْ أدب الشَّوق إلى الدِّيار المقدَّسة، وكلُّهم رجاء أنْ يُمَدَّ في الأجل، فيتمكَّنوا مِنَ المُثُول في أشرف العرَصَات.
عماد محمد-الخرطوم لطبيعته المتفاعلة مع الحياة وانفعاله بالقضايا الإنسانية، لم يكن غريبا على الشعر أن يفتح دفاتره لتنتشر فيها جائحة فيروس كورونا المستجد، فالشعر لا يحسن الوقوف بعيدًا على مسافة آمنة. طريقتان وقصيدة ليس الشاعر مجرد فرد في المجتمع يحس بمشكلاته وقضاياه، بل المفترض فيه أن يكون أرهف حسا ممن سواه، وهو بعد ذلك صاحب قدرة خاصة على التعبير تميزه عن غيره، وهذا ما ذهب إليه الشاعر والطبيب المصري أحمد زكي أبو شادي، مؤسس مدرسة أبولو للشعر الرومانسي، في كتابه "الشاعر النموذجي" إذ عرّف الشاعرية بقوله "هي القدرة على الإحساس بالحياة والنفاذ إلى أعماقها عن طريق المنطق والعقل، وصياغة هذا الإحساس". لكن بأي طريقة يعبر الشاعر عن مثل هذا الوباء؟ في كتابه الذي يحمل عنوان "الشعر والعقل.. منهج للفهم"، يجيب الأديب السوري حسن عبد الرازق منصور بأن الإنسان يختار طريقة التعبير عن نفسه أو عن فكرته حسب ما تمليه عليه هذه الفكرة، "وإجمالا هناك طريقتان للتعبير، ومهما حاول الشعراء ابتكار طرق بديلة، فإنهم لا يخرجون عن نطاق هاتين الطريقتين"، مسميا إياهما "الطريقة المباشرة في التعبير، والطريقة غير المباشرة". وهذا ما يظهر في النصوص التي اتخذت كورونا موضوعًا لها، بين قصائد تناولت الموضوع بشكل مباشر، وأخرى تناولت الظواهر الناتجة عن المرض والتحولات وتعاملت مع الموضوع بشكل يخلو من المباشرة.
كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة (الجزيرة) الموت والحب بحثا عن الإنسان توقف الكثيرون عند هذه الجائحة معولين عليها في رد الإنسان إلى إنسانيته بعد أن أخذته الحياة الحديثة في لهاث وحركة تخلو من المشاعر، وهذا مما عالجه الشاعر السوداني بحر الدين عبد الله في قصيدة له يقول في مطلعها: هذا الإنسان الآليُّ سيقتل حُلْمَ الفيروساتِ ويهزمُ بالحُبِّ سُلالاتِ الكوفيدْ الشاعر السوداني بحر الدين عبد الله يعوّل على الجائحة لترد الإنسان إلى بشريته (مواقع التواصل) ويكمل بحر الدين قصيدته قائلا: هذا الإنسان الآليُّ سيكفر بالكمامات ويُؤمنُ بالنغمِ النورانيِّ وأمصال التوحيدْ هذا الإنسان الآليُّ سيشربُ من كفِّ الله وحُبِّ اللهِ نشيدا نورانيّاً بعد نشيدْ وهذا ما دفع الناقد أسامة تاج السر للقول في إفادته للجزيرة نت "الأرض كادت تفتقد الإنسان رغم تزايد أعداد أهاليها من البشر، ربما تعيد المحنة التي يمر بها العالم التعاطف الإنساني وتوقف الركض الآلي لو لأمد بسيط، وهذا مما سيتوقف عنده الشعراء بلا شك"، ويأمل بحر الدين في الخلاص من "الحياة الآلية" بالحب والتعاطف الإنساني الذي يظهر في ذات القصيدة فيناجي روما وصباياها. وتعتمل أسئلة الحب في جوف الشعراء وقصائدهم بين الهم العام والحب في زمن كورونا الذي صوره المغربي نوفل السعيدي قائلا: مرضَ الناسُ بالوباء مراراً ووبائي شوقٌ وسُهدٌ ونارُ عالقا فوق حيرتي كيف أمضي؟ للتي بينها وبيني سِتارُ ويختتم الأصم إفادته معلقًا "ما يحسبه المتلقي نظرة ذاتية تخص الشعر هي في الأصل نتيجة صياغات جماعية متعددة، وربما كانت في أوقات متفرقة".
في هوى مكة المكرمة (قصيدة) قَلبِي يَذُوبُ إِلَيكِ مِن تَحْنَانهِ وَيَهِيمُ شَوقاً في رُبَاكِ وَيَخْضَعُ فَإذا ذُكِرتِ فَأَدمُعِي مُنْهَلَّةٌ وَالنَّفْسُ مِن ذِكْراكِ دَوْماً تُوْلَعُ وَإِذا خَلَوتُ إِلَيكِ كَانتْ وِجْهَتِي فَالرُّوحُ فِيكِ أَسِيرَةٌ، لا تَشْبَعُ وَإذا وَقَفْتُ مُناجِياً وَمُصَلِّياً كَانَتْ بِنَفْسِي دَعْوَةٌ أَتَضَرَّعُ يَا لَيْتَنِي في حُبِّهَا مُسْتَشْهِدٌ كمْ كُنْتُ مِن عِشقِي لَها أَتَوَجَّعُ أَنا إنْ حُرِمْتُ إقَامةً في مَهْدِها يَا لَيْتَ رُوحِي فِي ثَرَاهَا تُنْزَعُ أَنَا لا أُبَالِي في هَوَاهَا مِحْنَةً أَوَّاهُ.. لَوْ أَنِّي فِدَاهَا أُصْرَعُ ♦ ♦ ♦ دَارُ التُّقَى، وَمُحَمَّدٌ مِنهَا أَتَى وَالمَنْبَعُ القُدْسِيُّ مِنْها يَطْلُعُ وَكِتَابُ رَبِّي أَشْرَقَتْ آياتُهُ في مَكَّةِ الأَمْجَادِ نُورٌ يَلْمَعُ بَلَدٌ إِلَيْها كُلُّ خَيْرٍ يَنْتَمِي وَالحَاكِمُ الجَبَّارُ عَنْهَا يُمْنَعُ وَالمَاءُ زَمْزَمُ، وَالحَطِيمُ مُبَارَكٌ وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ آيٌ تَسْطَعُ وَالكَعْبَةُ الشَّمَّاءُ فِيهَا قِبْلَةٌ رَمْزُ الهُدَى لِلعَالَمِينَ وَمَنْبَعُ أَسْمَى مِنَ التِّبْرِ المُشِعِّ تُرَابُها بَلَدٌ طَهُورٌ بِالعَقِيدَةِ يَدْفَعُ قَدْ نَارَتِ الأَكْوَانُ مِنْ قُرْآنِهِ وَالجِنُّ تَقْرَأُ، وَالجِبَالُ تَصَدَّعُ قَدْ جَاءَ لِلإنْسَانِ نُوراً هَادِياً مَا ذَنْبُهُ أَنَّ الوَرَى لا تَسْمَعُ؟ شَمْسٌ تُنِيرُ عُقُولَنَا وَقُلُوبَنَا لَوْ أَنَّنَا للهِ كُنَّا نَخْشَعُ وَلَمَا تَحَوَّلَتِ الدُّنَى مُسْتَنْقَعاً بِشَرَائعٍ وَضْعِيَّةٍ لا تَنْفَعُ كَالغَابِ يَأْكُلُ بَعْضُنَا إخْوَانَهُ فَمَجَازِرٌ وَقَنابِلٌ وَتَفَجُّعُ دَاسَ القَوِيُّ عَلى الضَّعِيفِ بِنَعْلِهِ وَصَدَى الأَنِينِ يُقَضُّ مِنهُ المَضْجَعُ يَا أَيُّهَا الشَّرْقُ الحَزِينُ، تَرَفُّقاً يَكْفِي ضَيَاعٌ مُظْلِمٌ وَتَنَطُّعُ فَجَمِيعُ رَايَاتِ العَدُوِّ خَدِيعَةٌ وَجَمِيعُ أَفْكَارِ الضَّلالَةِ بَلْقَعُ لَوْ كَانَ سَعْيُكَ لِلتَّقَدُّمِ وَاضِحاً أَوْ كُنْتَ حَقًّا بِالقَرَارِ تُمَتَّعُ: مَا حَلَّ فِيكَ مِنَ الكَوَارِثِ مُرُّهَا.. حَالٌ يَشِيبُ لِهَوْلِهَا مَن يَرْضَعُ فَالقُدْسُ مَبْدأُ أَمْرِها مِن مَكَّةٍ وَاللهُ يَقْبَلُ مَن يَتُوبُ وَيَرْجِعُ لَو عُدتَ دُسْتَ عَلى الثُّرَيَّا عِزَّةً وَالشَّرْقُ وَالغَرْبُ الكَفُورُ سَيَرْكَعُ رَبَّاهُ، أَوْصِلْنِي لِمَكَّةَ عَاجِلاً فَالنَّفْسُ تَلْهَفُ وَالعُيُونُ تُدَمِّعُ.
شارك في تحريرها.
في كلِّ رحلة حجٍّ تختبئ قصيدة، وخَلْفَ كلِّ حاجٍّ شاعرٌ بالقوَّة، والرُّوح والشِّعْر يصدران مِنْ مَعِينٍ واحد، فإذا بلغ الحاجُّ البيت الحرام، واستقبل الكعبة المشرَّفة غاب النَّثر وحضر الشِّعْر، وكأنَّما كان الطَّريق الطَّويل يُعِدُّه لتلك السَّاعة الَّتي يلتقي فيها الحبيب حبيبه، فتسيل الكلمات حارَّةً حيَّةً على مَسِيل بطحاء مكَّة المكرَّمة، وتُسْكَب العَبَرات، وتتَّحِد أشواق الحجيج مهما اختلفتِ الكلمات واللُّغات، وكأنَّ لسان حالهم كلمات ابن بطُّوطة حين استذكر وقفته تجاه الكعبة المشرَّفة فقال: «ومِنْ عجائب صُنْع الله تعالَى أنَّه طَبَع القلوبَ على النُّزُوعِ إلى هذه المشاهد المُنيفة، والشَّوق إلى المُثُول بمعاهدها الشَّريفة، وجَعَلَ حُبَّها متَمكِّنًا في القلوب فلا يحلُّها أحدٌ إلَّا أخذتْ بمجامِعِ قلبه، ولا يفارقها إلَّا آسِفًا لفراقها، متولِّهًا لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويًا لتكرار الوِفَادةِ عليها، فأرضُها المباركة نُصْب الأعين، ومحبَّتُها حشْو القلوب، حكمةً من الله بالغة، وتصديقًا لدعوة خليله عليه السَّلام، والشَّوق يُحْضِرُها وهي نائيَة، ويُمَثِّلها وهي غائبة، ويَهُون على قاصدها ما يلقاه مِنَ المَشَاقّ ويُعانيه مِنَ العَنَاء، وكم مِنْ ضعيفٍ يرى الموتَ عيانًا دُونَها، ويُشاهد التَّلفَ في طريقها، فإذا جمع اللهُ بها شملَه تَلَقَّاها مسرورًا مستبشرًا كأنَّه لم يَذُقْ لها مرارة، ولا كابَدَ مِحنة ولا نَصَبًا، إنَّه لأمرٌ إلهيّ، وصُنْع ربَّانيّ، ودلالة لا يَشوبها لبْس ولا تَغْشاها شُبْهة، ولا يَطْرقها تمويه، تُقَوِّي بصيرة المستبصِر وتُسَدِّد فِكْرة المتفكِّر.